يعدّ التداخل اللغوي بين اللغات من أهم سمات اللغة وانّ التجاور والتفاعل الحضاري و التلاقح اللغوي والفكري بين الشعوب لعب دوراً مهما في اقتباس الكلمات والاصطلاحات واستعمالها ، ومن هنا جاءت التداخلات اللغوية واللفظية فكان لزاماً علينا دراسة هذه الظاهرة بشكل علمي وتحديد هذه الألفاظ الدخيلة وسبل معالجتها لغوياً ليتسنى استخدامها بالشكل الصحيح وتجنب الوقوع في الخطأ ، لذا فقد امتازت اللغة العربية عن سواها من اللغات في أنها تستعير وتستعمل الأسماء ولا تقتبس الأفعال ولا الحروف و( إذا ما احتاجت لأفعالها فإنها تصرفها كما تشاء وبما يتناسب مع قواعد الصرف والنحو العربية ، ينظر: محمد التونجي ، التسرب اللغوي بين العربية والفارسية ، مجلة الدراسات الأدبية : الجامعة اللبنانية ، السنة السابعة ، العددان 1 و 2 ، 1965، ص 130 ) ، فاقتبس العرب هذه الأسماء وقاموا بتغيير شكلها بحرية بما يتلاءم مع نطقها العربي فأبدلوا حرفاً بحرف ، يدنو من مخرجه إن لم يكن عنده هذا الحرف أو لأن نطقه في اللغة الأعجمية لا يوازن نطقه في العربية وبذلك يكون العربي قد حوّر في الشكل ولاءَم في المخرج مثال ذلك : ( نرگس و نرجس ) و ( بنفشه و بنفسج)، وان من الأخطاء اللغوية الشائعة هو استعمال الأسماء الأعجمية في اللغة العربية على أنها ذات أصل وجذور عربية من دون الرجوع إلى أصلها اللغوي ومثال ذلك أن العديد من الكتاب والأدباء يصرون على تسمية اللغة الفارسية القديمة (الپهلوية ) بـ ( الفهلوية ) واعتقادهم بأن هذه التسمية ، هي الصحيحة لهذه اللغة . لذا ارتأينا توضيح أصل هذه التسمية ( الپهلوية ) وكيفية ورودها إلينا بتسميتها الجديدة (الفهلوية) .
الـ ( الپهلوية )هي من ( پهلة ) و پهلة إقليم فارسي يضم خمسة مقاطعات هي (أصفهان ، الري ، همذان ، ماه نهاوند ، أذربيجان ) فكانت لغة سكان الإقليم تسمى اللغة الپهلوية ، ومنها جاءت تسمية اللغة بالـ ( الپهلوية ) .
أما أصل الكلمة فهو( پرهو، و پلهو ، و پهلو) والرسم العربي لهذه الكلمة هو (فهلو)(ينظر تاريخ الأدب في إيران ، تأليف ادوارد براون ، النسخة العربية ، ج1 ، ص 146 ) أما أصل تسميتها باسم ( الفهلوية ) فهذا ما أورده ياقوت الحموي في "معجم البلدان ، ج4 ، ذيل كلمة ( فهلو ) " عند ذكره لهذه المقاطعة وتعريفه بهذه اللغة ، فقال : " فإما الفهلوية فكان يجري بها كلام الملوك في مجالسهم وهي لغة منسوبة إلى فُهلة ، وهو اسم يقع على خمسة بلدان : اصبهان ، والري ، وهمذان ، وماه نهاوند ، وأذربيجان " . بذلك يعتقد البعض أن الحموي قد ترجم هذه التسمية من (الپهلوية) إلى (الفهلوية ) ، ولكن بنظرة بسيطة لقواعد الترجمة وأصولها نستطيع التمييز بين التسميتين ، حيث يفترض في ترجمة المصطلحات إما تشابه ورودها ودلالتها واستعمالها في كلا اللغتين وكتابتها وفق الفونيمات الخاصة والمتوافرة في كل لغة منها ( وهي بذلك تكون قد نقلت من لغة إلى أخرى بدون ترجمة ) أو اختلاف دلالتها وهذا غير متوفر في هاتين الكلمتين حيث لا وجود لمعنى (الفهلوية) في اللغة العربية ، " وقال ابن فارس في فقه اللغة : حدثني علي بن احمد الصباحي قال: سمعت ابن دريد يقول :حروف لا تتكلم العرب بها إلا ضرورة ، فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها ، وذلك كالحرف بين الباء والفاء مثل (پور) إذا اضطروا قالوا : فور " ( المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، جلال الدين السيوطي ، ج1 ، ط3 ، القاهرة : مكتبة دار التراث ، بلا ت ، ص 272) ، ومن هنا فإن الجانب الأول هو الأرجح وان الحموي فيما يبدو انه أراد تقريب لفظها إلى اللفظ العربي ليس إلا ، فضلاً عن ذلك فإن الأسماء لا تترجم ، كما مرّ سابقاً .
لذلك فإن الحموي قد أبدل الـ ( پ ) بـ ( ف ) لتوافر هذا الصوت أي الـ( ف ) في اللغة العربية ولعدم وجود صوت الـ ( پ ) فيها . ورب سائل يسأل :- لما لا تبدل بالـ( ب ) فإنها اقرب إلى ( پ ) من ناحية شكل الحرف ؟
والجواب على ذلك يتجلى في أن علم اللغة الحديث صنف الصوامت اللغوية حسب مخارجها من أعضاء جهاز النطق عند الإنسان وان صوت حرفي الـ ( پ ) والـ ( ب) هما من مخرج واحد وهما شفاهيان أي كلاهما ينطقان عن طريق الشفاه أما صوت حرف الـ ( ف ) فهو شفاهي أسناني ( أي ينطق عن طريق الشفاه والأسنان ) ، لكن الحموي كتبها بالفاء بدلا من الباء ، ذلك لان هذين الصوتين الـ( پ) والـ(ف) يمتازان بصفة واحدة وهي إنهما مجهوران ، أما صوت الـ( ب ) فهو مهموس ، ومع ذلك فلا مانع من كتابتها بحرف صوت الـ ( ب ) فأنه لن يغير من معنى ودلالة الكلمة .
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ياقوت الحموي لم يكن يترجم هذه الكلمة بل كان ناقلاً لها إلى اللغة العربية ، ونستنتج من ذلك أيضا أن الحموي كان عارفاً بعلم الأصوات ومخارجها ولم يوردها عفوياً بغير قصد ولو كان كذلك لأوردها بحرف الـ ( ب) بدلاً من الـ ( ف ) . وانه قد استعمل ياء النسبة في ذكره لهذه اللغة على اعتبار انه قد أورد أن المدن الخمسة وهي ( اصبهان ، والري ، وهمذان ، وماه نهاوند ، وأذربيجان ) كان يطلق عليها اسم أقليم ( فهلة ) ، وبذلك فقد أطلق اسم (اللغة الفهلوية ) نسبة لهذه المدن أو هذه المقاطعة .
Copyright © 2024 AL-REWAQ - All Rights Reserved.
We use cookies to analyze website traffic and optimize your website experience. By accepting our use of cookies, your data will be aggregated with all other user data.